الآية رقم (234)
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف والله بما تعملون خبير }
هذا أمر من اللّه للنساء اللاتي يتوفى عنهن أزواجهن أن يعتددن أربعة أشهر وعشر ليال، وهذا الحكم يشمل الزوجات المدخول بهن وغير المدخول بهن بالإجماع، ومستنده في غير المدخول بها عموم الآية الكريمة وهذا الحديث الذي رواه الإمام أحمد وأهل السنن أن ابن مسعود سئل عن رجل تزوج امرأة فمات عنها ولم يدخل بها ولم يفرض لها، فترددوا إليه مراراً في ذلك، فقال: أقول فيها برأيي، فإن يك صواباً فمن اللّه، وإن يك خطأ فمني ومن الشيطان، واللّه ورسوله بريئان منه: لها الصداق كاملاً - وفي لفظ لها صداق مثلها لا وكس ولا شطط - وعليها العدة، ولها الميراث، فقام معقل بن يسار الأشجعي فقال: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قضى به في بروع بنت واشق ففرح عبد اللّه بذلك فرحاً شديداً "أخرجه أحمد وأصحاب السنن وصححه الترمذي".
ولا يخرج من ذلك إلا المتوفى عنها زوجها وهي حامل، فإن عدتها بوضع الحمل، ولو لم تمكث بعده سوى لحظة لعموم قوله: {وأولات الأحمال أجلهنّ أن يضعن حملهن}، وكان ابن عباس يرى أن عليها أن تتربص بأبعد الأجلين: من الوضع، أو اربعة أشهر وعشر، للجمع بين الآيتين، وهذا مأخذ جيد ومسلك قوي، لولا ما ثبتت به السنّة في حديث سبيعة الأسلمية المخرج في الصحيحين من غير وجه، أنها توفي عنها زوجها سعد بن خولة وهي حامل، فلم تنشب أن وضعت حملها بعد وفاته، فلما تعلّت من نفاسها تجملت للخطّاب، فدخل عليها أبو السنابل بن بعكك فقال لها: مالي أراك متجملة لعلك ترجين النكاح؟ واللّه ما أنت بناكح حتى يمر عليك أربعة أشهر وعشر، قالت سبيعة: فلما قال لي ذلك جمعت عليَّ ثيابي حين أمسيت، فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فسألته عن ذلك فأفتاني بإني قد حللت حين وضعت حملي، وأمرني بالتزويج إن بدا لي. قال أبو عمر بن عبد البر: وقد روي أن ابن عباس رجع إلى حديث سبيعة، يعني لما احتج عليه به، قال: ويصحح ذلك عنه أن أصحابه أفتوا بحديث سبيعة كما هو قول أهل العلم قاطبة، وكذلك يستثنى من ذلك الزوجة إذا كانت أمة، فإن عدتها على النصف من عدة الحرة على قول الجمهور، لأنها لما كانت على النصف من الحرة فكذلك في العدة، ومن العلماء من يسوي بين الزوجات الحرائر والإماء في هذا المقام لعموم الآية، ولأن العدة من باب الأمور الجِبِليَّة، التي تستوي فيه الخليقة. وقد ذكر أن الحكمة في جعل عدة الوفاء أربعة أشهر وعشراً، احتمال اشتمال الرحم على حمل، فإذا انتظر به هذه المدة ظهر إن كان موجوداً كما جاء في حديث ابن مسعود الذي في الصحيحين: (إن خلق أحدكم يجمع في بطن أمه أربعين يوماً نطفة، ثم يكون علقة مثل ذلك، ثم يكون مضغة مثل ذلك، ثم يبعث إليه الملك فينفخ فيه الروح) فهذه ثلاث أربعينات بأربعة أشهر، والإحتياط بعشر بعدها لما قد ينقص بعض الشهور، ثم لظهور الحركة بعد نفخ الروح فيه، واللّه أعلم.
وقوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن بالمعروف} يستفاد من هذا وجوب الإحداد على المتوفى عنها مدة عدتها، لما ثبت في الصحيحين أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (لا يحل لإمرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلى على زوج أربعة أشهر وعشراً)، وفي الصحيحين أيضاً عن أم سلمة أن امرأة قالت: يا رسول اللّه إن ابنتي توفي عنها زوجها وقد اشتكت عينها أفنكحلها؟ فقال: (لا) كل ذلك يقول - لا - مرتين أو ثلاثاً، ثم قال: (إنما هي أربعة أشهر وعشر وقد كانت إحداكن في الجاهلية تمكث سنة) قالت زينب بنت أم سلمة: كانت المرأة إذا توفي عنها زوجها دخلت حفشاً ولبست شر ثيابها، ولم تمس طيباً ولا شيئاً، حتى تمر بها سنة، ثم تخرج فتعطى بعرة فترمي بها ثم تؤتي بدابة حمار أو شاة أو طير فتفتض به فقلما تفتض بشي إلا مات أي من نتنها والإفتضاض مسح الفرج به ومن ههنا ذهب كثيرون من العلماء إلى أن هذه الآية ناسخة للآية التي بعدها وهي قوله: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعاً إلى الحول غير إخراج} الآية كما قاله ابن عباس وغيره، وفي هذا نظر كما سيأتي تقريره، والغرض من الإحداد هو عبارة عن ترك الزينة من الطيب، ولبس ما يدعوها إلى الأزواج من ثياب وحلي وغير ذلك، وهو واجب في عدة الوفاة قولاً واحداً، ولا يجب في عدة الرجعية قولاً واحداً، وهل يجب في عدة البائن فيه قولان: ويجب الإحداد على جميع الزوجات المتوفى عنهن أزواجهن، سواء في ذلك الصغيرة، والآيسة، والحرة والأمة والمسلمة، والكافرة لعموم الآية، وقال أبو حنيفة وأصحابه: لا حداد على الكافرة، وبه يقول أشهب وابن نافع من أصحاب مالك، وحجة قائل هذه المقالة قوله صلى اللّه عليه وسلم : (لا يحل لامرأة تؤمن باللّه واليوم الآخر أن تحد على ميت فوق ثلاث إلى على زوج أربعة أشهر وعشراً)، قالوا: فجعله تعبداً، وألحق أبو حنيفة وأصحابه الصغيرة بها لعدم التكليف، وألحق أبو حنيفة الأمة المسلمة لنقصها، ومحل تقرير ذلك كله في كتب الأحكام والفروع واللّه الموفق للصواب.
وقوله تعالى: {فإذا بلغن أجلهن} أي انقضت عدتهن {فال جناح عليكم}، قال الزهري: أي على أوليائها {فيما فعلن} يعني النساء اللاتي انقضت عدتهن قال ابن عباس: إذا طُلقت المرأة أو مات عنها زوجها فإذا انقضت عدتها فلا جناح عليها أن تتزين وتتصنع وتتعرض للتزويج فذلك المعروف. وقد روي عن مقاتل، وقال مجاهد: {بالمعروف} النكاح الحلال الطيب، وهو قول الحسن والزهري، واللّه أعلم.
الآية رقم (235)
{ولا جناح عليكم فيما عرضتم به من خطبة النساء أو أكننتم في أنفسكم علم الله أنكم ستذكرونهن ولكن لا تواعدوهن سرا إلا أن تقولوا قولا معروفا ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله واعلموا أن الله يعلم ما في أنفسكم فاحذروه واعلموا أن الله غفور حليم }
يقول تعالى: {ولا جناح عليكم} أن تعرّضوا بخطبة النساء في عدتهن، من وفاة أزواجهن من غير تصريح، قال ابن عباس: التعريض أن يقول إني أريد التزويج، وإني أحب امرأة من أمرها ومن أمرها - يُعرِّض لها بالقول بالمعروف - وفي رواية وودت أن اللّه رزقني امرأة. وعن مجاهد عن ابن عباس هو أن يقول: إني أريد التزويج وإن النساء لمن حاجتي، ولوددت أن ييسر لي امرأة صالحة "رواه البخاري تعليقاً"من غير تصريح لها بالخطبة، وهكذا حكم المطلقة المبتوتة يجوز التعريض لها، كما قال النبي صلى اللّه عليه وسلم لفاطمة بنت قيس، حين طلقها زوجها أو عمرو بن حفص، آخر ثلاث تطليقات، فأمرها أن تعتد في بيت ابن أم مكتوم وقال لها: فإذا حللت فآذنيني، فلما حلت خطب عليها أسامة بن زيد مولاه فزوجها إياه، فأما المطلقة فلا خلاف في أنه لا يجوز لغير زوجها التصريح بخطبتها ولا التعريض لها، واللّه أعلم.
وقوله تعالى: {أو أكننتم في أنفسكم} أي أضمرتم في أنفسكم من خطبتهن، وهذا كقوله تعالى: {وربك يعلم ما تكن صدورهم وما يعلنون} وكقوله: {وأنا أعلم بما أخفيتم وما أعلنتم}، ولهذا قال: {علم اللّه أنكم ستذكرونهن} أي في أنفسكم فرفع الحرج عنكم في ذلك، ثم قال: {ولكن لا تواعدوهنّ سرا} واختاره ابن جرير، وقال ابن عباس: {ولكن لا تواعدوهن سراً} لا تقل لها: إني عاشق، وعاهديني أن لا تتزوجي غيري، ونحو هذا. وكذا روي عن سعيد بن جبير والضحاك، وعن مجاهد هو قول الرجل للمرأة: لا تفوتيني بنفسك فإني ناكحك، فنهى اللّه عن ذلك وشدَّد فيه وأحل الخطبة والقول بالمعروف، وقال ابن زيد: {ولكن لا تواعدوهنّ سراً} هو أن يتزوجها في العدة سراً فإذا حلت أظهر ذلك، وقد يحتمل أن تكون الآية عامة في جميع ذلك ولهذا قال: {إلا أن تقولوا قولاً معروفاً} قال ابن عباس: يعني به ما تقدم من إباحة التعريض كقوله: إني فيك لراغب ونحو ذلك.
وقوله تعالى: {ولا تعزموا عقدة النكاح حتى يبلغ الكتاب أجله} يعني ولا تعقدوا العقدة بالنكاح حتى تنقضي العدة. قال ابن عباس: {حتى يبلغ الكتاب أجله} يعني ولا تعقدوا العقد بالنكاح حتى تنقضي العدة، وقد أجمع العلماء على أنه لا يصح العقد في مدة العدة، واختلفوا فيمن تزوج امرأة في عدتها فدخل بها فإنه يفرق بينهما وهل تحرم عليه أبداً؟ على قولين: الجمهور على أنها لا تحرم عليه بل له أن يخطبها إذا انقضت عدتها، وذهب الإمام مالك إلى أنها تحرم عليه على التأبيد، ومأخذ هذا أن الزوج لما استعجل ما أحل اللّه، عوقب بنقيض قصده فحرمت عليه على التأبيد كالقاتل يحرم الميراث.
وقوله تعالى: {واعلموا أن اللّه يعلم ما في أنفسكم فاحذروه} توعدهم على ما يقع في ضمائرهم من أمور النساء، وأرشدهم إلى إضمار الخير دون الشر، ثم لم يُؤَيِّسْهم من رحمته ولم يقنطهم من عائدته فقال: {واعلموا أن الله غفور رحيم}.
الآية رقم (236)
{لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهن أو تفرضوا لهن فريضة ومتعوهن على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقا على المحسنين }
أباح تبارك وتعالى طلاق المرأة بعد العقد عليها وقبل الدخول بها، قال ابن عباس: المس النكاح، ويجوز أن يطلقها قبل الدخول بها والفرض لها إن كانت مفوضة، وإن كان في هذا انكسار لقلبها، ولهذا أمر تعالى بإمتاعها وهو تعويضها عما فاتها بشيء تعطاه من زوجها، بحسب حاله على الموسع قدره وعلى المقتر قدره، وقال ابن عباس: متعة الطلاق أعلاه الخادم، ودون ذلك الورق، ودون ذلك الكسوة، وقال الشعبي: أوسط ذلك درع وخمار وملحفة وجلباب، ومتَّع الحسن بن علي بعشرة آلاف، ويروى أن المرأة قالت: متاع قليل من حبيب مفارق سبب فراقه لها أنه لما أصيب عليُّ وبويع الحسن بالخلافة قالت له زوجته: لتَهْنَك الخلافة، فقال: يقتل عليّ وتظهرين الشماتة؟ اذهبي فأنتِ طالق ثلاثاً، ثم بعث إليها بالمتعة عشرة آلاف درهم فقالت ذلك.[1] وانظر الجزء الأول من كتابنا "تفسير آيات الأحكام"ص 376"، وذهب أبو حنيفة إلى أنه متى تنازع الزوجان في مقدار المتعة وجب لها عليه نصف مهر مثلها، وقال الشافعي: لا يجبر الزوج على قدر معلوم إلا على أقل ما يقع عليه اسم المتعة، وأحب ذلك إليّ أن يكون أقله ما تجزىء فيه الصلاة، وقال في القديم: لا أعرف في المتعة قدراً إلا أني أستحسن ثلاثين درهماً كما روي عن ابن عمر رضي اللّه عنهما، وقد اختلف العلماء أيضا: هل تجب المتعة لكل مطلقة، أو إنما تجب المتعة لغير المدخول بها التي لم يفرض لها على أقوال:
أحدها: أنها تجب المتعة لكل مطلقة لعموم قوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين} ولقوله تعالى: {فتعالين أمتعكن وأسرحكن سراحا جميلا} وقد كن مفروضاً لهن ومدخولاً بهن، وهذا قول سعيد ابن جبير وهو أحد قولي الشافعي.
والقول الثاني: أنها تجب للمطلقة إذا طلقت قبل المسيس وإن كانت مفروضاً لها لقوله تعالى: {يا أيها الذين آمنوا إذا نكحتم المؤمنات ثم طلقتموهن من قبل أن تمسوهن فما لكم عليهن من عدة تعتدونها فمتعوهن وسرحوهن سراحا جميلا} قال سعيد بن المسيب: نسخت الآية التي في الأحزاب، الآية التي في البقرة، وقد روى البخاري في صحيحه عن سهل بن سعد وأبي أسيد أنهما قالا: تزوج رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أُميمة بنت شرحبيل، فلما أدخلت عليه بسط يده إليها فكأنها كرهت ذلك، فأمر أبا أسيد أن يجهزها ويكسوها ثوبين أزرقين
القول الثالث: أن المتعة إنما تجب للمطلقة إذا لم يدخل بها ولم يفرض لها، فإن كان قد دخل بها وجب لها مهر مثلها إذا كانت مفوضة، وإن كان قد فرض لها وطلقها قبل الدخول وجب لها عليه شطره، فإن دخل بها استقر الجميع وكان ذلك عوضاً لها عن المتعة، وإنما المصابة التي لم يفرض لها ولم يدخل بها فهذه التي دلت هذه الآية الكريمة على وجوب متعتها وهذا قول ابن عمر ومجاهد، ومن العلماء من استحبها لكل مطلقة، ممن عدا المفوضة المفارقة قبل الدخول وهذا ليس بمنكور وعليه تحمل آية التخيير في الأحزاب، ولهذا قال تعالى: {على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعا بالمعروف حقاً على المحسنين}. وقال تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين} ومن العلماء من يقول إنها مستحبة مطلقاً.
الآية رقم (237)
وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم إلا أن يعفون أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح وأن تعفوا أقرب للتقوى ولا تنسوا الفضل بينكم إن الله بما تعملون بصير }
هذه الآية الكريمة تدل على اختصاص المتعة بما دلت عليه الآية الأولى، حيث أوجب في هذه الآية نصف المهر المفروض إذا طلق الزوج قبل الدخول، فإنه لو كان ثَمَّ واجب آخر من متعة لبيّنها، لا سيما وقد قرنها بما قبلها من اختصاص المتعة بتلك الآية، وتشطير الصداق - والحالة هذه - أمر مجمع عليه بين العلماء، لا خلاف بينهم في ذلك فإنه متى كان قد سمى لها صداقاً ثم فارقها قبل دخوله بها، فإنه يجب لها نصف ما سمي من الصداق، إلا أن عند الثلاثة أنه يجب جميع الصداق إذا خلا بها الزوج وإن لم يدخل بها، وهو مذهب الشافعي في القديم وبه حكم الخلفاء الراشدون، لكن قال ابن عباس: في الرجل يتزوج المرأة فيخلو بها ولا يمسها ثم يطلقها، ليس لها إلا نصف الصداق، لأن اللّه يقول: {وإن طلقتموهن من قبل أن تمسوهن وقد فرضتم لهن فريضة فنصف ما فرضتم} قال الشافعي: بهذا أقول وهو ظاهر الكتاب.
وقوله تعالى: {إلا أن يعفون} أي النساء عما وجب لها على زوجها فلا يجب لها عليه شيء، قال ابن عباس في قوله {إلا أن يعفون}: إلا أن تعفو الثيب فتدع حقها.
وقوله تعالى: {أو يعفو الذي بيده عقدة النكاح} المراد به الزوج عن عيسى بن عاصم قال: سمعت شريحاً يقول: سألني علي بن أبي طالب عن {الذي بيده عقدة النكاح} فقلت له: هو ولي المرأة، فقال علي: لا، بل هو الزوج، وهذا هو الجديد من قول الشافعي، ومذهب أبي حنيفة وأصحابه واختاره ابن جرير، ومأخذ هذا القول أن الذي بيده عقدة النكاح حقيقة الزوجُ فإن بيده عقدها وإبرامها ونقضها وانهدامها، وكما أنه لا يجوز للولي أن يهب شيئاً من مال المولية للغير، فكذلك في الصداق. الوجه الثاني أنه أبوها أو أخوها أو من لا تنكح إلا بإذنه وروي عن الحسن وعطاء وطاووس: أنه الولي وهذا مذهب مالك وقول الشافعي في القديم، ومأخذه أن الولي هو الذي أكسبها إياه، فله التصرف فيه بخلاف سائر مالها، وقال عكرمة: أذن اللّه في العفو وأمر به، فأي امرأة عفت جاز عفوها.
وقوله تعالى: {وأن تعفو أقرب للتقوى} خوطب به الرجال والنساء، قال ابن عباس: أقربهما للتقوى الذي يعفو، {ولا تنسوا الفضل بينكم} المعروف يعني لا تهملوه بل استعملوه بينكم، عن علي بن أبي طالب أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (ليأتين على الناس زمان عضوض يعض المؤمن على ما في يديه وينسى الفضل وقد قال اللّه تعالى: {ولا تنسوا الفضل بينكم} (شرار يبايعون كل مضطر) "رواه أحمد وأبو داود والترمذي"وقد نهى رسول باللّه صلى اللّه عليه وسلم عن بيع المضطر وعن بيع الغرر فإن كان عندك خير فعد به على أخيك ولا تزده هلاكاً إلى هلاكه، فإن المسلم أخو المسلم لا يحزنه ولا يحرمه، {إن الله بما تعملون بصير} أي لا يخفى عليه شيء من أموركم وأحوالكم وسيجزي كل عامل بعمله.
الآية رقم (238 : 239)
حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا لله قانتين . فإن خفتم فرجالا أو ركبانا فإذا أمنتم فاذكروا الله كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون }
يأمر تعالى بالمحافظة على الصلوات في أوقاتها، وحفظ حدودها وأدائها في أوقاتها، كما ثبت في الصحيحين عن ابن مسعود قال: سألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : أي العمل أفضل؟ قال: (الصلاة في وقتها)، قلت: ثم أي؟ قال: الجهاد في سبيل اللّه)، قلت: ثم أي؟ قال: (بر الوالدين:) وفي الحديث: (إن أحب الإعمال إلى اللّه تعجيل الصلاة لأول وقتها) "رواه أحمد وأبو داود والترمذي"وخص تعالى من بينها بمزيد التأكيد الصلاة الوسطى وقد اختلف السلف والخلف فيها أي صلاة هي؟ فقيل: الصبح حكاه مالك لما روي عن ابن عباس أنه صلى الغداة في مسجد البصرة فقنت قبل الركوع وقال: هذه الصلاة الوسطى التي ذكرها اللّه في كتابه فقال: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا للّه قانتين}، وهو الذي نص عليه الشافعي رحمه اللّه محتجاً بقوله تعالى: {وقوموا للّه قانتين} والقنوت عنده في صلاة الصبح، ومنهم من قال: هي وسطى باعتبار أنها لا تقصر وهي بين صلاتين رباعيتين مقصورتين وقيل: إنها صلاة الظهر روي عن زيد بن ثابت قال: كان رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يصلي الظهر بالهاجرة ولم يكن يصلي صلاة أشد على اصحاب رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم منها فنزلت: {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وقوموا للّه قانتين} وقيل: إنها صلاة العصر وهو قول أكثر علماء الصحابة وجمهور التابعين.
قال الإمام أحمد بسنده عن علي قال: قال رسول الله صلى اللّه عليه وسلم يوم الأحزاب: (شغلونا عن الصلاة الوسطة صلاة العصر ملأ اللّه قلوبهم وبيوتهام ناراً) ثم صلاها بين العشاءين المغرب والعشاء "رواه أحمد وأخرجه الشيخان وأبو داود اوالترمذي"ويؤكد ذلك الأمر بالمحافظة عليها قوله صلى اللّه عليه وسلم في الحديث الصحيح: (من فاتته صلاة العصر فكأنما وُتِرَ أهله وماله)، وفي الصحيح أيضاً عن النبي صلى اللّه عليه وسلم قال: (بكروا بالصلاة في يوم الغيم فإنه من ترك صلاة العصر فقد حبط عمله). وعن أبي يونس مولى عائشة قال: أمرتني عائشة أن أكتب لها مصحفاً قالت: إذا بلغت هذه الآية {حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى} فآذنّي، فلما بلغتها آذنتها، فأملت عليَّ: حافظوا على الصلوات والصلاة الوسطى وصلاة العصر وقوموا للّه قانتين قالت: سمعتها من رسول الله صلى اللّه عليه وسلم "رواه أحمد واللفظ له وأخرجه مسلم في صحيحه"وقيل: إن الصلاة الوسطى هي صلاة المغرب.
وقيل: بل الصلاة الوسطى مجموع الصلوات الخمس وكل هذه الأقوال فيها ضعف بالنسبة إلى التي قبلها وقد ثبتت السنة بأنها العصر فتعيَّن المصير إليها.
وقوله تعالى: {وقوموا للّه قانتين} أي خاشعين ذليلين مستكينين بين يديه، وهذا الأمر مستلزم ترك الكلام في الصلاة لمنافاته إياها، ولهذا لما امتنع النبي صلى اللّه عليه وسلم من الرد على ابن مسعود حين سلم عليه وهو في الصلاة قال: (إن في الصلاة لشغلاً)، وفي صحيح مسلم: (إن هذه الصلاة لا يصلح فيها شيء من كلام الناس إنما هي التسبيح والتكبير وذكر اللّه) وقال الإمام أحمد بن حنبل عن زيد بن أرقم قال: كان الرجل يكلم صاحبه في عهد النبي صلى اللّه عليه وسلم في الحاجة في الصلاة حتى نزلت هذه الآية: {وقوموا للّه قانتين} فأمرنا بالسكوت "رواه الجماعة سوى ابن ماجة".
وقوله تعالى: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً فإذا أمنتم فاذكروا اللّه كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} لما أمر تعالى عباده بالمحافظة على الصلوات والقيام بحدودها، وشدد الأمر بتأكيدها ذكر الحال الذي يشتغل الشخص فيها عن أدائها على الوجه الأكمل، وهي حال القتال والتحام الحرب فقال: {فإن خفتم فرجالاً أو ركباناً} أي فصلُّوا على أي حال كان رجالاً أو ركباناً يعني مستقبلي القبلة وغير مستقبليها، كما قال مالك عن ابن عمر كان إذا سئل عن صلاة الخوف وصفها ثم قال: فإن كان خوف أشد من ذلك صلوا رجالا على أقدامهم أو ركباناً مستقبلي القبلة أو غير مستقبليها. قال نافع: لا أرى أبن عمر ذكر ذلك إلا عن النبي صلى اللّه عليه وسلم، وهذا من رخص اللّه التي رخص لعباده ووضعه الآصار والأغلال عنهم، وقد روي عن ابن عباس قال: في هذه الآية يصلي الراكب على دابته والراجل على رجليه. وقد ذهب الإمام أحمد فيما نص عليه إلى أن صلاة الخوف تفعل في بعض الأحيان ركعة واحدة إذا تلاحم الجيشان، وعلى ذلك ينزل الحديث الذي رواه مسلم عن ابن عباس قال: فرض اللّه الصلاة على لسان نبيكم صلى اللّه عليه وسلم في الحضر أربعاً، وفي السفر ركعتين، وفي الخوف ركعة، واختار هذا القول ابن جرير، وقال البخاري: باب الصلاة عند مناهضة الحصون ولقاء العدو وقال الأوزاعي: إن كان تهيأ الفتح ولم يقدروا على الصلاة صلوا إيماء كل امرىء لنفسه فإن لم يقدروا على الإيماء أخروا الصلاة حتى ينكشف القتال ويأمنوا فيصلُّوا ركعتين، فإن لم يقدروا صلوا ركعة وسجدتين، فإن لم يقدروا لا يجزيهم التكبر ويؤخرونها حتى يأمنوا، وقال أنَس ابن مالك: حضرت مناهضة حصن تسترعند إضاءة الفجر، واشتد اشتعال القتال فلم يقدروا على الصلاة، فلم نصل إلا بعد ارتفاع النهار فصليناها ونحن مع أبي موسى ففتح لنا، قال أنَس: وما يسرني بتلك الصلاة الدنيا وما فيها. وهذا يدل على اختيار البخاري لهذا القول، والجمهور على خلافه ويعولون على أن صلاة الخوف على الصفة التي ورد بها القرآن في سورة النساء. واللّه أعلم.
وقوله تعالى: {فإذا أمنتم فاذكروا الله} أي أقيموا صلاتكم كما أمرتم فأتموا ركوعها وسجودها، وقيامها وقعودها وخشوعها وهجودها {كما علمكم ما لم تكونوا تعلمون} أي مثل ما أنعم عليكم وهداكم للإيمان، وعلمكم ما ينفعكم في الدنيا والآخرة، فقابلوه بالشكر والذكر، كقوله بعد ذكر صلاة الخوف: {فإذا اطمأننتم فأقيموا الصلاة إن الصلاة كانت على المؤمنين كتاباً موقوتا} وستأتي الأحاديث الواردة في صلاة الخوف وصفاتها في سورة النساء عند قوله تعالى: {وإذا كنت فيهم فأقمت لهم الصلاة} الآية إن شاء اللّه تعالى.
الآية رقم (240 : 242)
والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجا وصية لأزواجهم متاعا إلى الحول غير إخراج فإن خرجن فلا جناح عليكم في ما فعلن في أنفسهن من معروف والله عزيز حكيم . وللمطلقات متاع بالمعروف حقا على المتقين . كذلك يبين الله لكم آياته لعلكم تعقلون }
قال الأكثرون: هذه الآية منسوخة بالتي قبلها، وهي قوله: {يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشراً} قال البخاري، قال ابن الزبير: قلت لعثمان بن عفان: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً} قد نسختها الآية الأخرى فلم نكتبها أو تدعها؟ قال: يا ابن أخي لا أغيِّر شيئاً منه من مكانه، ومعنى هذا الإشكال الذي قاله ابن الزبير لعثمان إذا كان حكمها قد نسخ بالأربعة الأشهر فما الحكمة في إبقاء رسمها مع زوال حكمها، وبقاء رسمها بعد التي نسختها يوهم بقاء حكمها؟ فأجابه أمير المؤمنين بأن هذا أمر توقيفي وأنا وجدتها مثبتة في المصحف كذلك بعدها فأثبتها حيث وجدتها.
وروي عن ابن عباس قال: كان الرجل إذا مات وترك امرأته اعتدت سنة في بيته ينفق عليها من ماله ثم أنزل اللّه بعد: {والذين يتوفون منكم ويذرون أزواجاً يتربصن بأنفسهن أربعة أشهر وعشرا} فهذه عدة المتوفى عنها زوجها إلا أن تكون حاملاً فعدتها أن تضع ما في بطنها، وقال: {ولهن الربع مما تركتم إن لم يكن لكم ولد، فإن كان لكم ولد فلهن الثمن مما تركتم}، فبيّن ميراث المرأة وترك الوصية والنفقة.
وقال عطاء، قال ابن عباس: نسخت هذه الآية عدتها عند أهلها فتعتد حيث شاءت وهو قول الله تعالى: {غير إخراج}، قال عطاء: إن شاءت اعتدت عند أهلها وسكنت في وصيتها وإن شاءت خرجت لقول اللّه: {فلا جناح عليكم فيما فعلن}، قال عطاء: ثم جاء الميراث فنسخ السكنى فتعتد حيث شاءت ولا سكنى لها، ثم أسند البخاري عن ابن عباس مثل ما تقدم عنه بهذا القول الذي عول عليه مجاهد وعطاء من أن هذه الآية لم تدل على وجوب الاعتداد سنة كما زعمه الجمهور حتى يكون ذلك منسوخاً بالأربعة الأشهر وعشر وإنما دلت على أن ذلك كان من باب الوصاة بالزوجات أن يُمكَنَّ من السكنى في بيوت أزواجهن بعد وفاتهم حولاً كاملاً إن اخترن ذلك ولهذا قال تعالى: {وصية لأزواجهم} أي يوصيكم اللّه بهن وصية كقوله: {يوصيكم اللّه في أولادكم} الآية. {غير إخراج} فأما إذا انقضت عدتهن بالأربعة أشهر والعشر أو بوضع الحمل واخترن الخروج والانتقال من ذلك المنزل فإنهن لا يمنعن من ذلك لقوله: {فإن خرجن فلا جناح عليكم فيما فعلن في أنفسهن من معروف}، وهذا القول له اتجاه وفي اللفظ مساعدة له وقد اختاره جماعة منهم الإمام ابن تيمية،، ورده آخرون منهم الشيخ ابن عبد البر، وقول عطاء ومن تابعه على أن ذلك منسوخ بآية الميراث إن أرادوا ما زاد على الأربعة أشهر والعشر فمسلَّم، وإن أرادوا أن سكنى الأربعة أشهر وعشر لا تجب في تركة الميت، فهذا محل خلاف بين الأئمة وهما قولان للشافعي رحمه اللّه.
وقد استدلوا على وجوب السكنى في منزل الزوج بما رواه مالك في موطئه أن الفريعة بنت مالك بن سنان وهي أخت أبي سعيد الخدري رضي الله عنهما أخبرتها أنها جاءت إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم تسأله أن ترجع إلى أهلها في بني خدرة فإن زوجها خرج في طلب أَعبْدٍ له أَبَقوا حتى إذا كان بطرف القدوم لحقهم فقتلوه قالت: فسألت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أن أرجع إلى أهلي في بني خدرة فإن زوجي لم يتركني في مسكن يملكه ولا نفقة، قالت: فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (نعم)، قالت: فانصرفت حتى إذا كنت في الحجرة ناداني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم أو أمر بي فنوديت له، فقال: (كيف قلت؟) فرددت عليه القصة التي ذكرت له من شأن زوجي، فقال: (أمكثي في بيتك حتى يبلغ الكتاب أجله)، قالت: فاعتددت فيه أربعة أشهر وعشراً، قالت: فلما كان
عثمان بن عفّان أرسل إليَّ فسألني عن ذلك فأخبرته فاتبعه وقضى به
"رواه مالك وأبو داود والترمذي والنسائي، وقال الترمذي: حسن صحيح".
وقوله تعالى: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين}، لما نزل قوله تعالى: {متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين} قال رجل: إن شئت أحسنت ففعلت وإن شئت لم أفعل فأنزل اللّه هذه الآية: {وللمطلقات متاع بالمعروف حقاً على المتقين} وقد استدل بهذه الأية من ذهب من العلماء إلى وجوب المتعة لكل مطلقة، سواء كانت مفوضة أو مفروضاً لها، أو مطلقة قبل المسيس، أو مدخولاً بها، وهو قول عن الشافعي رحمه الله، واختاره ابن جرير ومن لم يوجبها مطلقاً يخصص من هذا العموم مفهوم قوله تعالى: {لا جناح عليكم إن طلقتم النساء ما لم تمسوهنّ أو تفرضوا لهنّ فريضة ومتعوهنّ على الموسع قدره وعلى المقتر قدره متاعاً بالمعروف حقاً على المحسنين}.
وقوله تعالى: {كذلك يبين اللّه لكم آياته} أي في إحلاله وتحريمه وفروضه وحدوده فيما أمركم به ونهاكم عنه، بيَّنه ووضحه وفسَّره، ولم يتركه مجملاً في وقت احتياجكم إليه، {لعلكم تعقلون} أي تفهمون وتتدبرون.
الآية رقم (243 : 245)
{ ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت فقال لهم الله موتوا ثم أحياهم إن الله لذو فضل على الناس ولكن أكثر الناس لا يشكرون . وقاتلوا في سبيل الله واعلموا أن الله سميع عليم . من ذا الذي يقرض الله قرضا حسنا فيضاعفه له أضعافا كثيرة والله يقبض ويبسط وإليه ترجعون }
روي عن ابن عباس أنهم كانوا أربعة آلاف وعنه كانوا ثمانية آلاف، وقال وهب بن منبه: كانوا بضعة وثلاثين ألفاً، قال ابن عباس: كانوا أربعة آلاف خرجوا فراراً من الطاعون، قالوا: نأتي أرضاً ليس بها موت، حتى إذا كانوا بموضع كذا وكذا قال اللّه لهم: {موتوا} فماتوا، فمرّ عليهم نبي من الأنبياء فدعا ربه أن يحييهم فأحياهم فذلك قوله عزّ وجلّ: {ألم تر إلى الذين خرجوا من ديارهم وهم ألوف حذر الموت} الآية، وذكر غير واحد من السلف أن هؤلاء القوم كانوا أهل بلدة في زمان بني إسرائيل استوخموا أرضهم، وأصابهم بها وباء شديد فخرجوا فراراً من الموت هاربين إلى البريّة، فنزلوا وادياً أفيح فملأوا ما بين عدوتيه، فأرسل اللّه إليهم ملكين أحدهما من أسفل الوادي، والآخر من أعلاه، فصاحا بهم صيحة واحدة فماتوا عن آخرهم موتة رجل واحد فحيزوا إلى حظائر وبني عليهم جدران، وفنوا وتمزقوا وتفرقوا، فلما كان بعد دهر مرّ بهم نبي من أنبياء بني إسرائيل يقال له حزقيل فسأله اللّه أن يحييهم على يديه فأجابه إلى ذلك وأمره أن يقول: أيتها العظام البالية إن اللّه يأمرك أن تجتمعي، فاجتمع عظام كل جسد بعضها إلى بعض، ثم أمره فنادى: أيتها العظام إن اللّه يأمرك أن تكتسي لحماً وعصباً وجلداً، فكان ذلك وهو يشاهد، ثم أمره فنادى: أيتها الأرواح إن اللّه يأمرك أن ترجع كل روح إلى الجسد الذي كانت تعمره، فقاموا أحياء ينظرون، قد أحياهم اللّه بعد رقدتهم الطويلة وهم يقولون: سبحانك لا إله إلا أنت وكان في إحيائهم عبرة ودليل قاطع على وقوع المعاد الجسماني يوم القيامة ولهذا قال: {إن الله لذو فضل على الناس} أي فيما يريهم من الآيات الباهرة والحجج القاطعة والدلالات الدامغة {ولكن أكثر الناس لا يشكرون} أي لا يقومون بشكر ما أنعم اللّه به عليهم في دينهم ودنياهم.
وفي هذه القصة عبرة ودليل على أنه لن يغني حذر من قدر، وأنه لا ملجأ من اللّه إلا إليه، فإن هؤلاء خرجوا فراراً من الوباء طلباً لطول الحياة، فعوملوا بنقيض قصدهم وجاءهم الموت سريعاً في آن واحد، وقوله {وقاتلوا في سبيل اللّه واعلموا أن اللّه سميع عليم} أي كما أن الحذرلا يغني من القدر، كذلك الفرار من الجهاد وتجنبه لا يقرب أجلا ولا يبعده، بل الأجل المحتوم والرزق المقسوم مقدر مقنن لا يزاد فيه ولا ينقص منه كما قال تعالى: {قل فادرؤا عن أنفسكم الموت إن كنتم صادقين}، قال تعالى: {أينما تكونوا يدرككم الموت ولو كنتم في بروج مشيدة}، وروينا عن أمير الجيوش وسيف اللّه المسلول على أعدائه خالد بن الوليد رضي اللّه عنه أنه قال وهو في سياق الموت: لقد شهدت كذا وكذا موقفاً وما من عضو من أعضائي إلا وفيه رمية أو طعنة أو ضربة وها أنا ذا أموت على فراشي كما يموت البعير فلا نامت أعين الجبناء يعني أنه يتألم لكونه ما مات قتيلاً في الحرب، ويتأسف على ذلك ويتألم أن يموت على فراشه.
وقوله تعالى: {من ذا الذي يقرض اللّه قرضاً حسنا فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} يحث تعالى عباده على الإنفاق في سبيل اللّه، وقد كرر تعالى هذه الآية في كتابه العزيز في غير موضع، وفي حديث النزول أنه يقول تعالى: (من يقرض غير عديم ولا ظلوم)، وعن عبد اللّه بن مسعود قال: لما نزلت {من ذا الذي يقرض اللّه قرضاً حسناً فيضاعفه له} قال أبو الدحداح الأنصاري: يا رسول اللّه وإن اللّه عزّ وجلّ ليريد منا القرض؟ قال: (نعم يا أبا الدحداح) قال: أرني يدك يا رسول اللّه! قال، فناوله يده قال: فإني قد أقرضت ربي عزّ وجلّ حائطي - قال: وحائط له فيه ستمائة نخلة وأم الدحداح فيه وعيالها - قال: فجاء أبو الدحداح فناداها: يا أم الدحداح، قالت: لبيك، قال: اخرجي فقد أقرضته ربي عزّ وجلّ "رواه أبن أبي حاتم وأخرجه ابن مردويه عن عمر مرفوعا بنحوه"وقوله: {قرضاً حسناً} روي عن عمر وغيره من السلف هو النفقة في سبيل اللّه، وقيل: هو النفقة على العيال، وقيل: هو التسبيح والتقديس وقوله: {فيضاعفه له أضعافاً كثيرة} كما قال تعالى: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كمثل حبة أنبتت سبع سنابل في كل سنبلة مائة حبة واللّه يضاعف لمن يشاء} الآية، وسيأتي الكلام عليها. وعن ابن عمر قال لما نزلت: {مثل الذين ينفقون أموالهم في سبيل اللّه كمثل حبة أنبتت سبع سنابل} إلى آخرها فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (رب زد أمتي) فنزلت: {من ذا الذي يقرض اللّه قرضاً حسناً فيضاعفه له أضعافاً كثيرة}، قال: (رب زد أمتي)، فنزلت: {إنما يوفى الصابرون أجرهم بغير حساب} "رواه ابن أبي حاتم عن نافع عن ابن عمر"فالكثير من اللّه لا يحصى، وقوله: {واللّه يقبض ويبسط} أي أنفقوا ولا تبالوا فالله هو الرزاق يضيق على من يشاء من عباده في الرزق ويوسعه على آخرين، له الحكمة والبالغة في ذلك {وإليه ترجعون} أي يوم القيامة.
الآية رقم (246)
{ألم تر إلى الملأ من بني إسرائيل من بعد موسى إذ قالوا لنبي لهم ابعث لنا ملكا نقاتل في سبيل الله قال هل عسيتم إن كتب عليكم القتال ألا تقاتلوا قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل الله وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلا منهم والله عليم بالظالمين }
قال وهب بن منبه وغيره: كان بنوا إسرائيل بعد موسى عليه السلام على طريق الاستقامة مدة من الزمان، ثم أحدثوا الأحداث وعبد بعضهم الأصنام، ولم يزل بين أظهرهم من الأنبياء من يأمرهم بالمعروف وينهاهم عن المنكر، ويقيمهم على منهج التوراة إلى أن فعلوا ما فعلوا فسلط اللّه عليهم أعداءهم، فقتلوا منهم مقتلة عظيمة وأسروا خلقاً كثيراً وأخذوا منهم بلاداً كثيرة، ولم يكن أحد يقاتلهم إلا غلبوه، وذلك أنهم كان عندهم التوراة والتابوت الذي كان في قديم الزمان، وكان ذلك موروثاً لخلفهم عن سلفهم إلى موسى الكليم عليه الصلاة والسلام، فلم يزل بهم تماديهم على الضلال حتى استلبه منهم بعض الملوك في بعض الحروب، وأخذ التوراة من أيديهم ولم يبق من يحفظها فيهم إلى القليل، وانقطعت النبوة من أسباطهم ولم يبق من سبط لاوي الذي يكون فيه الأنبياء إلا امرأة حامل من بعلها، وقد قتل فأخذوها فحبسوها في بيت واحتفظوا بها لعل اللّه يرزقها غلاماً يكون نبياً لهم، ولم تزل المرأة تدعوا الله عزّ وجلّ أن يرزقها غلاماً فسمع اللّه لها ووهبها غلاماً فسمته شمويل أي سمع اللّه دعائي ومنهم من يقول شمعون روي عن قتادة أن النبي هو يوشع بن نون قال ابن كثير: هو بعيد لأن هذا كان بعد موسى بزمن طويل، وكان ذلك في زمن داود عليه السلام، وقد كان بين داود و موسىما يزيد على ألف سنة، وروي عن السدي أنه شمويل ، وقال مجاهد: هو شمعون واللّه أعلم. وهو بمعناه فشب ذلك الغلام ونشأ فيهم وأنبته اللّه نباتاً حسناً، فلما بلغ سن الأنبياء أوحى اللّه إليه وأمره بالدعوة إليه وتوحيده، فدعا بني إسرائيل فطلبوا منه أن يقيم لهم ملكاً يقاتلون معه أعداءهم، وكان الملك أيضاً قد باد فيهم فقال لهم النبي: فهل عسيتم إن أقام اللّه لكم ملكاً ألا تقاتلوا وتفوا بما التزمتم من القتال معه؟ {قالوا وما لنا ألا نقاتل في سبيل اللّه وقد أخرجنا من ديارنا وأبنائنا} أي وقد أخذت منا البلاد وسبيت الأولاد! قال اللّه تعالى: {فلما كتب عليهم القتال تولوا إلا قليلاً منهم واللّه عليم بالظالمين} أي ما وفوا بما وعدوا بل نكل عن الجهاد أكثرهم واللّه عليم بهم.
">الآية رقم (247)">
الآية رقم (
247)
{وقال لهم نبيهم إن الله قد بعث لكم طالوت ملكا قالوا أنى يكون له الملك علينا ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال قال إن الله اصطفاه عليكم وزاده بسطة في العلم والجسم والله يؤتي ملكه من يشاء والله واسع عليم }
أي لما طلبوا من نبيهم أن يعين لهم ملكاً منهم فعين لهم طالوت وكان رجلاً من أجنادهم ولم يكن من بيت الملك فيهم لأن الملك كان في سبط يهوذا ولم يكن هذا من ذلك السبط فلهذا قالوا: {أنى يكون له الملك علينا}؟ أي كيف يكون ملكاً علينا {ونحن أحق بالملك منه ولم يؤت سعة من المال} أي هو مع هذا فقير لا مال له يقوم بالملك، وقد ذكر بعضهم أنه كان سقاء، وقيل: دباغاً وهذا اعتراض منهم على نبيهم وتعنت، وكان الأولى بهم طاعة وقول معروف، ثم قد أجابهم النبي قائلاً: {إن اللّه اصطفاه عليكم} أي اختاره لكم من بينكم واللّه أعلم به منكم، يقول: لست أنا الذي عينته من تلقاء نفسي بل اللّه أمرني به لما طلبتم مني ذلك {وزاده بسطة في العلم والجسم} أي وهو مع هذا أعلم منكم وأنبل وأشكل منكم، وأشد قوة وصبراً في الحرب ومعرفة بها، أي أتم علماً وقامة منكم، ومن ههنا ينبغي أن يكون الملك ذا علم وشكل حسن وقوة شديدة في بدنه ونفسه ثم قال: {واللّه يؤتي ملكه من يشاء} أي هو الحاكم الذي ما شاء فعل ولا يسأل عما فعل وهم يسألون، لعلمه وحكمته ورأفته بخلقه ولهذا قال: {واللّه واسع عليم} أي هو واسع الفضل يختص برحمته من يشاء، عليم بمن يستحق الملك ممن لا يستحقه.
الآية رقم (248)
{وقال لهم نبيهم إن آية ملكه أن يأتيكم التابوت فيه سكينة من ربكم وبقية مما ترك آل موسى وآل هارون تحمله الملائكة إن في ذلك لآية لكم إن كنتم مؤمنين }
يقول لهم نبيهم: إن علامة بركة ملك طالوت عليكم أن يرد اللّه عليكم التابوت الذي أخذ منكم {فيه سكينة من ربكم}، قيل: معناه فيه وقار وجلالة، وقال الربيع: رحمة، وقال ابن جريج: سألت عطاء عن قوله: {فيه سكينة من ربكم} قال: ما تعرفون من آيات اللّه فتسكنون إليه وكذا قال الحسن البصري.
وقوله تعالى: {وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون}، عن ابن عباس قال: عصاه ورضاض الألواح، وكذا قال قتادة والسدي، وقال عطية بن سعد: عصا موسى وعصا هارون وثياب موسى وثياب هارون ورضاض الألواح، وقال عبد الرزاق: سألت الثوري عن قوله: {وبقية مما ترك آل موسى وآل هرون} فقال: منهم من يقول قفيز من منّ ورضاض الألواح، ومنهم من يقول العصا والنعلان.
وقوله تعالى: {تحمله الملائكة}، قال ابن عباس: جاءت الملائكة تحمل التابوت بين السماء والأرض حتى وضعته بين يدي طالوت والناس ينظرون، وقال السدي: أصبح التابوت في دار طالوت فآمنوا بنبوة شمعون وأطاعوا طالوت.
وقوله تعالى: {إن في ذلك لآية لكم} أي على صدقي فيما جئتكم به من النبوة، وفيما أمرتكم به من طاعة طالوت {إن كنتم مؤمنين} أي باللّه واليوم الآخر.
الآية رقم (249)
{فلما فصل طالوت بالجنود قال إن الله مبتليكم بنهر فمن شرب منه فليس مني ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده فشربوا منه إلا قليلا منهم فلما جاوزه هو والذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده قال الذين يظنون أنهم ملاقوا الله كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن الله والله مع الصابرين }
يخبر اللّه تعالى عن طالوت ملك بني إسرائيل، حين خرج في جنوده ومن أطاعه من ملأ بني إسرائيل، وكان جيشه يومئذ - فيما ذكره السدي - ثمانين ألفاً فاللّه أعلم أنه قال: {إن اللّه مبتليكم} أي مختبركم بنهر، وهو نهر بين الأردن وفلسطين، يعني نهر الشريعة المشهور {فمن شرب منه فليس مني} أي فلا يصحبني اليوم في هذا الوجه، {ومن لم يطعمه فإنه مني إلا من اغترف غرفة بيده} أي فلا بأس عليه، قال اللّه تعالى: {فشربوا منه إلا قليلاً منهم}، قال ابن عباس: من اغترف منه بيده روي، ومن شرب منه لم يرو، فشرب منه ستة وسبعون ألفاً وتبقى معه أربعة آلاف هذا قول السدي وروى البراء بن عازب قال: كنا نتحدث أن أصحاب محمد صلى اللّه عليه وسلم الذين كانوا يوم بدر ثلاثمائة وبضعة عشر على عدة أصحاب طالوت الذين جازوا معه النهر وما جازه معه إلا مؤمن، ورواه البخاري عن عبد اللّه بن رجاء عن إسرائيل بن يونس عن أبي إسحاق عن جده عن البراء بنحوه ولهذا قال تعالى: {فلما جاوزه هو الذين آمنوا معه قالوا لا طاقة لنا اليوم بجالوت وجنوده} أي استقلوا أنفسهم عن لقاء عدوّهم لكثرتهم، فشجعهم علماؤهم العالمون بأن عد اللّه حق، فإن النصر من عند اللّه ليس عن كثرة عدد ولا عدد، ولهذا قالوا: {كم من فئة قليلة غلبت فئة كثيرة بإذن اللّه واللّه مع الصابرين}.
الآية رقم (250 : 252)
{ولما برزوا لجالوت وجنوده قالوا ربنا أفرغ علينا صبرا وثبت أقدامنا وانصرنا على القوم الكافرين . فهزموهم بإذن الله وقتل داود جالوت وآتاه الله الملك والحكمة وعلمه مما يشاء ولولا دفع الله الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض ولكن الله ذو فضل على العالمين . تلك آيات الله نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين }
أي لما واجه حزب الإيمان - وهم قليل من أصحاب طالوت - لعدوهم أصحاب جالوت وهم عدد كثير {قالوا ربنا أفرغ علينا صبراً} أي أنزل علينا صبراً من عندك، {وثبت أقدامنا} أي في لقاء الأعداء وجنبنا الفرار والعجز {وانصرنا على القوم الكافرين}.
قال اللّه تعالى: {فهزموهم بإذن اللّه} أي غلبوهم وقهروهم بنصر اللّه لهم وقتل داود جالوت} وكان طالوت قد وعده إن قتل جالوت أن يزوجه ابنته، ويشاطره نعمته، ويشركه في أمره، فوفى له ثم آل الملك إلى داود عليه السلام مع ما منحه اللّه به من النبوة العظيمة، ولهذا قال تعالى: {وآتاه الله الملك} الذي كان بد طالوت، {والحكمة} أي النبوة بعد شمويل، {وعلمه مما يشاء} أي مما يشاء اللّه من العلم الذي اختصه به صلى اللّه عليه وسلم، ثم قال تعالى: {ولولا دفع اللّه بعضهم ببعض لفسدت الأرض}، أي لولا أن اللّه يدفع عن قوم بآخرين، كما دفع عن بني إسرائيل بمقاتلة طالوت وشجاعة داود لهلكوا، كما قال تعالى: {ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لهدمت صوامع وبيع وصلوات ومساجد يذكر فيها اسم اللّه كثيرا} الآية. وعن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (إن اللّه ليدفع بالمسلم الصالح عن مائة أهل بيت جيرانه البلاء)، ثم قرأ ابن عمر: {ولولا دفع اللّه الناس بعضهم ببعض لفسدت الأرض} "أخرجه ابن جرير وقال ابن كثير: إسناده ضغف"وعن عبادة بن الصامت قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (الأبدال في أمتي ثلاثون: بهم ترزقون وبهم تمطرون وبهم تنصورن) "أخرجه ابن مردويه عن عبادة بن الصامت مرفوعا"قال قتادة: إني لارجوا أن يكون الحسن منهم.
وقوله تعالى: {ولكنَّ اللّه ذو فضل على العالمين} أي ذو منّ عليهم ورحمة بهم، يدفع عنهم ببعضهم بعضاً وله الحكم والحكمة والحجة على خلقه في جميع أفعاله وأقواله.
ثم قال تعالى: {تلك آيات اللّه نتلوها عليك بالحق وإنك لمن المرسلين} أي هذه آيات اللّه التي قصصناها عليك من أمر الذين ذكرناهم بالحق، أي بالواقع الذي كان عليه الأمر المطابق لما بأيدي أهل الكتاب من الحق، الذي يعلمه علماء بني إسرائيل {وإنك} يا محمد {لمن المرسلين} وهذا توكيد وتوطئة للقسم.
الآية رقم (253)
{تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم الله ورفع بعضهم درجات وآتينا عيسى ابن مريم البينات وأيدناه بروح القدس ولو شاء الله ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء الله ما اقتتلوا ولكن الله يفعل ما يريد }
يخبر تعالى أنه فضّل بعض الرسل على بعض كما قال تعالى: {ولقد فضلنا بعض النبيين على بعض وآتينا داود زبورا}، وقال ههنا: {تلك الرسل فضلنا بعضهم على بعض منهم من كلم اللّه} يعني موى ومحمداً صلى اللّه عليهما وكذلك آدم كما ورد به حديث الإسراء حين رأى النبي صلى اللّه عليه وسلم الأنبياء في السماوات بحسب تفاوت منازلهم عند الله عزّ وجلّ فإن قيل فما الجمع بين هذه الآية وبين الحديث الثابت في الصحيحين: (لا تفضلوني على الأنبياء فإن الناس يصعقون يوم القيامة فأكون أول من يفيق فأجد موسى باطشاً بقائمة العرش فلا أدري أفاق قبلي أم جوزي بصعقة الطور؟ فلا تفضلوني على الأنبياء) "الحديث رواه الشيخان عن أبي هريرة بلفظ: استبَّ رجل من المسلمين ورجل من اليهود فقال اليهودي: لا والذي اصطفى موسى على العالمين، فرفع المسلم يده فلطم بها وجه اليهودي...الخ"وفي رواية: (لا تفضلوا بين الأنبياء(، فالجواب من وجوه، أحدها: أن هذا كان قبل أن يعلم بالتفضيل وفي هذا نظر، الثاني: أن هذا قاله من باب الهضم والتواضع، الثالث: أن هذا نهي عن التفضيل في مثل هذه الحال التي تحاكموا فيها عند التخاصم التشاجر، الرابع: لا تفضلوا بمجرد الأراء والعصبية، الخامس: ليس مقام التفضيل إليكم وإنما هو إلى اللّه عزّ وجلّ وعليكم الانقياد والتسليم له والإيمان به.
وقوله تعالى: {وآتينا عيسى ابن مريم البينات} أي الحجج والدلائل القاطعات على صحة ما جاء بني إسرائيل به من أنه عبد اللّه ورسوله إليهم {وأيدناه بروح القدس} يعني أن الله أيده بجبريل عليه السلام، ثم قال تعالى: {ولو شاء اللّه ما اقتتل الذين من بعدهم من بعد ما جاءتهم البينات ولكن اختلفوا فمنهم من آمن ومنهم من كفر ولو شاء اللّه ما اقتتلوا} أي كل ذلك عن قضاء اللّه وقدره، ولهذا قال: {ولكن اللّه يفعل ما يريد}.
الآية رقم (254)
{يا أيها الذين آمنوا أنفقوا مما رزقناكم من قبل أن يأتي يوم لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة والكافرون هم الظالمون }
يأمر تعالى عباده بالإنفاق مما رزقهم في سبيله سبيل الخير، ليدخروا ثواب ذلك عند ربهم ومليكهم، وليبادروا إلى ذلك في هذه الحياة الدنيا {من قبل أن يأتي يوم} يعني يوم القيامة {لا بيع فيه ولا خلة ولا شفاعة} أي لا يباع أحد من نفسه ولا يفادى بمال ولو بذله، ولو جاء بملء الأرض ذهباً، ولا تنفعه خلة أحد يعني صداقته بل ولا نسابته كما قال: {فإذا نفخ في الصور فلا أنساب بينهم يومئذ ولا يتساءلون} ولا شفاعة: أي ولا تنفعهم شفاعة الشافعين.
وقوله تعالى: {والكافرون هم الظالمون} مبتدأ محصور في خبره، أي ولا ظالم أظلم ممن وافى اللّه يومئذ كافراً. وقد روي عن عطاء بن دينار أنه قال: الحمد للّه الذي قال: {والكافرون هم الظالمون} ولم يقل {والظالمون هم الكافرون} .
الآية رقم (255)
{الله لا إله إلا هو الحي القيوم لا تأخذه سنة ولا نوم له ما في السماوات وما في الأرض من ذا الذي يشفع عنده إلا بإذنه يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء وسع كرسيه السماوات والأرض ولا يؤوده حفظهما وهو العلي العظيم }
هذه آية الكرسي ولها شأن عظيم، وقد صح الحديث عن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأنها أفضل آية في كتاب اللّه. وقال الإمام أحمد: عن أبي بن كعب أن النبي صلى اللّه عليه وسلم سأله: (أي آية في كتاب اللّه أعظم؟) قال: اللّه ورسوله أعلم، فرددها مراراً، ثم قال: آية الكرسي قال: (ليهنك العلم يا أبا المنذر! والذي نفسي بيده إن لها لسانا وشفتين، تقدس الملك عن ساق العرش).
حديث آخر: عن أنَس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم سأل رجلاً من صحابته فقال: (أي فلان هل تزوجت؟) قال: لا، وليس عندي ما أتزوج به، قال: (أوليس معك: قل هو اللّه أحد؟) قال: بلى، قال: (ربع القرآن) قال: (أليس معك: قل أيها الكافرون؟) قال: بلى، قال: (ربع القرآن) قال: (أليس معك: إذا زلزلت؟) قال: بلى، قال: (ربع القرآن)، قال: (أليس معك: إذا جاء نصر اللّه؟ قال: بلى، قال: )ربع القرآن(قال: )أليس معك آية الكرسي: اللّه لا إله إلى هو؟(قال: بلى، قال: )ربع القرآن) "رواه أحمد عن انَس بن مالك".
حديث آخر: عن أبي ذر رضي اللّه عنه قال: أتيت النبي صلى اللّه عليه وسلم وهو في المسجد فجلست فقال: (يا أبا ذر هل صلّيت؟) قلت: لا، قال: (قم فصل)، قال: فقمت فصليت ثم جلست فقال: (يا أبا ذر تعوذ باللّه من شر شياطين الإنس والجن) قال، قلت: يا رسول اللّه أو للإنس شياطين؟ قال: (نعم)، قال، قلت: يا رسول اللّه الصلاة! قال: (خير موضوع من شاء أقلَّ ومن شاء أكثر) قال، قلت: يا رسول اللّه فالصوم؟ قال: (فرض مجزي وعند اللّه مزيد)، قلت: يا رسول اللّه فالصدقة، قال: (أضعاف مضاعفة)، قلت: يا رسول اللّه فأيها أفضل، قال: (جهد من مقل، أو سرٌّ إلى فقير)، قلت: يا رسول اللّه أي الأنبياء كان أول، قال: (آدم)، قلت: يا رسول اللّه ونبي كان، قال: (نعم نبي مكلم)، قلت: يا رسول اللّه كم المرسولن، قال: (ثلثمائة وبضعة عشر جماً غفيراً) وقال مرة: (وخمسة عشر)، قلت: يا رسول اللّه أي ما أنزل عليك أعظم؟ قال: (آية الكرسي: {اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم} "رواه أحمد والنسائي عن أبي ذر الغفاري".
حديث آخر: وقد ذكر البخاري في فضل آية الكرسي بسنده عن أبي هريرة، قال: وكلني رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بحفظ زكاة رمضان، فأتاني آت فجعل يحثو من الطعام، فأخذته وقلت: لأرفعنك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، قال: دعني فإني محتاج وعليَّ عيال ولي حاجة شديدة، قال: فخليت عنه، فأصبحت، فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (يا ابا هريرة ما فعل أسيرك البارحة)؟ قال، قلت: يا رسول اللّه شكا حاجة شديدةٌ وعيالاً فرحمته وخليت سبيله، قال: (أما إنه قد كذبك وسيعود)، فعرفت أنه سيعود لقول رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم (إنه سيعود) فرصدته، فجاء يحثو من الطعام فأخذته، فقلت: لأرفعنك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم، فقال: دعني فإني محتاج وعلي عيال، لا أعود، فرحمته وخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (يا أبا هريرة ما فعل أسيرك البارحة)؟ قلت: يا رسول اللّه شكا حاجة وعيالاً فرحمته فخليت سبيله، قال: ؟(أما إنه قد كذبك وسيعود)، فرصدته الثالثة فجاء يحثو من الطعام، فأخذته فقلت لأرفعنك إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم وهذا آخر ثلاث مرات أنك تزعم أنك لا تعود ثم تعود. فقال: دعني أعلمك كلمات ينفعك اللّه بها، قلت: وما هي؟ قال: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي: {اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم} حتى تختم الآية، فإنك لن يزال عليك من اللّه حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح، فخليت سبيله، فأصبحت فقال لي رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :(ما فعل أسيرك البارحة؟) قلت: يا رسول اللّه زعم أنه يعلمني كلمات ينفعني اللّه بها فخليت سبيله، قال: (ما هي؟) قال قال لي: إذا أويت إلى فراشك فاقرأ آية الكرسي من أولها حتى تختم الآية: {اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم} وقال لي: لن يزال عليك من اللّه حافظ، ولا يقربك شيطان حتى تصبح - وكانوا أحرص شيء على الخير - فقال النبي صلى اللّه عليه وسلم : (أما إنه صدقك وهو كذوب. تعلم من تخاطب من ثلاث ليال يا أبا هريرة؟) قلت: لا، قال: (ذاك شيطان).
حديث آخر: عن أبي هريرة أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال: (سورة البقرة فيها آيةٌ سيدةُ آي القرآن لا تقرأ في بيت فيه شيطان إلا خرج منه: آية الكرسي) "رواه الحاكم"وقد رواه الترمذي ولفظه: (لكل شيء سنام وسنام القرآن سورة البقرة وفيها آية هي سيدة آي القرآن: آية الكرسي).
حديث آخر: عن عمر بن الخطاب أنه خرج ذات يوم إلى الناس وهم سماطات فقال: أيكم يخبرني بأعظم آية في القرآن؟ فقال ابن مسعود: على الخبير سقطت سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (أعظم آية في القرآن {اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم} "رواه ابن مردويه")
حديث آخر: في اشتماله على اسم اللّه الأعظم، عن أسماء بنت يزيد بن السكن قالت: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول في هاتين الآيتين: {اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم} و {الم اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم}:(إن فيهما اسم اللّه الأعظم) "رواه أحمد"
حديث آخر: عن أبي أمامة يرفعه قال: (اسم اللّه الأعظم الذي إذا دعي به أجاب في ثلاث: سورة القرة وآل عمران وطه)، وقال هشام أما البقرة ف {أللّه لا إله إلا هو الحي القيوم} وفي آل عمران {الم* اللّه لا إله إلا هو الحي القيوم} وفي طه {وعنت الوجوه للحي القيوم}.
حديث آخر: عن أبي أمامة قال قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (من قرا دبر كل صلاة مكتوبة آية الكرسي لم يمنعه من دخول الجنة إلا أن يموت) "رواه ابن مردويه والنسائي"
حديث آخرعن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (من قرا حم المؤمن؟؟ إلى {إليه المصير} وآية الكرسي حين يصبح حُفِظ بهما حتى يمسي، ومن قرأهما حين يمسي حُفِظَ بهما حتى يصبح) "رواه الترمذي وقال: حديث غريب"وقد ورد في فضلها أحاديث أخر تركناها اختصاراً لعدم صحتها وضعف أسانيدها.
(وهذه الآية مشتملة على عشر جمل مستقلة)
فقوله تعالى: {اللّه لا إله إلا هو} إخبار بأنه المتفرد بالإلهية لجميع الخلائق، {الحي القيوم} أي الحي في نفسه الذي لا يموت أبداً، القيم لغيره. وكان عمر يقرأ القيَّام فجميع الموجودات مفتقرة إليه وهو غني عنها، ولا قوام لها بدون أمره، كقوله: {ومن آياته أن تقوم السماء والأرض بأمره}، وقوله: {لا تأخذه سنة ولا نوم} أي لا يعتريه نقص ولا غفلة ولا ذهول عن خلْقه، بل هو قائم على كل نفس بما كسبت، شهيد على كل شيء لا يغيب عنه شيء ولا يخفى عليه خافية، ومن تمام القيومية أنه لا يعتريه سِنة ولا نوم. فقوله: {لا تأخذه} أي لا تغلبه {سِنَةُ} وهي الوسن والنعاس، ولهذا قال {ولا نوم} لأنه أقوى من السِّنة. وفي الصحيح عن أبي موسى قال: قام فينا رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم بأربع كلمات فقال: (إن اللّه لا ينام ولا ينبغي له أن ينام، يخفض القسط ويرفعه، يُرْفع إليه عمل النهار قبل عمل الليل، وعمل الليل قبل عمل النهار، حجابه النور أو النار، لو كشفه لأحرقت سبحات وجهه ما انتهى إليه بصره من خلقه). وعن ابن عباس أن بني إسرائيل قالوا: يا موسى هل ينام ربك؟ قال:اتقوا اللّه، فناداه ربه عزّ وجلّ: يا موسى سألوك هل ينام ربك؟ خذ زجاجتين في يديك فقم الليلة، ففعل موسى، فلما ذهب من الليل ثلث نعس فوقع لركبتيه، ثم انتعش فضبطهما حتى إذا كان آخر الليل نعس فسقطت الزجاجتان فانكسرتا، فقال: يا موسى لو كنت أنا لسقطت السماوات والأرض فهلكت، كما هلكت الزجاجتان في يديك، فأنزل اللّه عزّ وجلّ على نبيّه صلى اللّه عليه وسلم آية الكرسي "رواه ابن أبي حاتم عن سعيد بن جبير عن ابن عباس"
وقوله تعالى: {له ما في السموات وما في الأرض} إخبار بأن الجميع عبيده وفي ملكه وتحت قهر وسلطانه كقوله: {إن كل من في السموات والأرض إلا آتي الرحمن عبداً}.
وقوله تعالى: {من ذا الذي يشفع عنه إلا بإذنه}، كقوله: {وكم من ملك في السموات لا تغني شفاعتهم شيئاً إلا من بعد أن يأذن اللّه لمن يشاء ويرضى}، وكقوله: {ولا يشفعون إلا لمن ارتضى} وهذا من عظمته وجلاله وكبريائه عزّ وجلّ، أنه لا يتجاسر أحد على أن يشفع لأحد عنده إلا بإذنه له في الشفاعة كما في حديث الشفاعة: (آتي تحت العرش فأخر ساجداً فيدعني ما شاء اللّه أن يدعني، ثم يقال: ارفع رأسك وقل تسمع، واشفع تشفع - قال - فيحد لي حداً فأدخلهم الجنة).
وقوله تعالى: {يعلم ما بين أيديهم وما خلفهم} دليل على إحاطة علمه بجميع الكائنات ماضيها وحاضرها ومستقبلها، كقوله إخباراً عن الملائكة: {وما نتنزل إلا بأمر ربك له ما بين أيدينا وما خلفنا وما بين ذلك وما كان ربك نسياً}.
وقوله تعالى: {ولا يحيطون بشيء من علمه إلا بما شاء} أي لا يطلع أحد من علم اللّه على شيء إلا بما أعلمه اللّه عزّ وجلّ وأطلعه عليه، ويحتمل أن يكون المراد لا يطلعون على شيء من علم ذاته وصفاته إلا بما أطلعهم اللّه عليه كقوله: {ولا يحيطون به علماً}.
وقوله تعالى: {وسع كرسيه السموات والأرض}، عن ابن عباس قال: علمه، وقال آخرون: الكرسي موضع القدين. عن ابن عباس قال: سئل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن قول اللّه عزّ وجلّ: {وسع كرسيه السموات والأرض} قال: (كرسيه موضع قدميه، والعرش لا يقدر قدره إلا اللّه عزّ وجلّ) وقال السدي: الكرسي تحت العرش قال الضحاك عن ابن عباس: لو أن السموات السبع والأرضين السبع بسطن ثم وصلن بعضهن إلى بعض ما كن في سعة الكرسي إلا بمنزلة الحلقة في المفازة. قال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم : (ما السموات السبع في الكرسي إلا كدراهم سبعة ألقيت في ترس) قال، قال أبو ذر: سمعت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم يقول: (ما الكرسي في العرش إلا كحلقة من حديد ألقيت بين ظهراني فلاة من الأرض) "روى هذه الآثار ابن جرير رحمه اللّه تعالى"
وعن أبي ذر الغفاري أنه سأل النبي صلى اللّه عليه وسلم عن الكرسي، فقال رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم :(والذي نفسي بيده ما السموات السبع والأرضون السبع عند الكرسي إلا كحلقة ملقاة بأرض فلاة، وإن فضل العرش على الكرسي كفضل الفلاة على تلك الحلقة)، وعن عمر رضي اللّه عنه قال: أتت امرأة إلى رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقالت: ادع اللّه أن يدخلني الجنة. قال: فعظم الرب تبارك وتعالى، وقال: (إن كرسيه وسع السموات والأرض وإن له أطيطاً كأطيط الرحل الجديد من ثقله)، وعن الحسن البصري، أنه كان يقول: الكرسي هو العرش، والصحيح أن الكرسي غير العرش والعرش أكبر منه كما دلت على ذلك الآثار والأخبار.
وقوله تعالى: {ولا يؤوده حفظهما} أي لا يثقله ولا يُعجزه حفظ السماوات والأرض ومن فيهما ومن بينهما، بل ذلك سهل عليه يسير لديه، وهو القائم على كل نفس بما كسبت، الرقيب على جميع الأشياء فلا يعزب عنه شيء، ولا يغيب عنه شيء، والأشياء كلها حقيرة بين يديه متواضعة ذليلة صغيرة بالنسبة إليه، محتاجة فقيرة، وهو الغني الحميد، الفعّال لما يريد الذي لا يسأل عما يفعل وهم يسالون، وهو القاهر لكل شيء، الحسيب على كل شيء الرقيب العلي العظيم، لا إله غيره ولا رب سواه. فقوله: {وهو العلي العظيم}، كقوله: {وهو الكبير المتعال} وهذه الآيات وما في معناها من الأحاديث الصحاح الأجود فيها طريقة السلف الصالح أمرارها كما جاءت من غير تكيف ولا تشبيه.
الآية رقم (256)
{لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن بالله فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها والله سميع عليم }
يقول تعالى: {لا إكراه في الدين} أي لا تكرهوا أحداً على الدخول في دين الإسلام، فإنه بيِّن واضح، جلي دلائله وبراهينه، لا يحتاج إلى أن يكره أحد على الدخول فيه، بل من هداه الله للإسلام وشرح صدره ونوَّر بصيرته دخل فيه على بينة، ومن أعمى اللّه قلبه وختم على سمعه وبصره فإنه لا يفيده الدخول في الدين مكرها مقسوراً، وقد ذكروا أن سبب نزول هذه الآية في قوم من الأنصار وإن كان حكمها عاماً. وقال ابن جرير عن ابن عباس، قال: كانت المرأة تكون مقلاة فتجعل على نفسها إن عاش لها ولد أن تهوّده، فلما أجليت بنو النضير كان فيهم من أبناء الأنصار فقالوا: لا ندع أبناءنا، فأنزل اللّه عز وجلّ: {لا إكراه في الدين قد تبين الرشد من الغي} "أخرجه أبو داود والنسائي"وعن ابن عباس قوله: {لا إكراه في الدين} قال: نزلت في رجل من الأنصار من بني سالم بن عوف يقال له الحصيني، كان له ابنان نصرانيان، وكان هو رجلاً مسلماً فقال للنبي صلى اللّه عليه وسلم : {ألا أستكرههما، فإنهما قد أبيا إلا النصرانية، فأنزل اللّه فيه ذلك "رواه ابن جرير والسدي"وقال ابن أبي حاتم عن أبي هلالا عن أسبق، قال: كنت في دينهم مملوكاً نصرانياً لعمر بن الخطاب، فكان يعرض عليَّ الإسلام فآبى، فيقول {لا إكراه في الدين}، ويقول: يا اسبق لو أسلمت لاستعنا بك على بعض أمور المسلمين.
وقد ذهب طائفة كثيرة من العلماء أن هذه محمولة على أهل الكتاب ومن دخل دينهم قبل النسخ والتبديل إذا بذلوا الجزية. وقال آخرون: بل هي منسوخة بآية القتال، وأنه يجب أن يدعى جميع الأمم إلى الدخول في الدين الحنيف دين الإسلام، فإن أبى أحد منهم الدخول فيه ولم ينقد له، أو يبذل الجزية، قوتل حتى يقتل، وهذا معنى الإكراه. قال اللّه تعالى: {ستدعون إلى قوم أولي بأس شديد تقاتلونهم أو يسلمون}، وقال تعالى: {يا ايها النبي جاهد الكفار والمنافقين واغلظ عليهم}، وقال تعالى: {يا أيها الذين آمنوا قاتلوا الذين يلونكم من الكفار وليجدوا فيكم غلظة واعلموا أن الله مع المتقين}. وفي الصحيح: (عجب ربك من قوم يقادون إلى الجنة في السلاسل)، يعني الأسارى الذين يقدم بهم بلاد الإسلام في الوثاق والأغلال والقيود والأكبال، ثم بعد ذلك يسلمون وتصلح أعمالهم وسرائرهم فيكونون من أهل الجنة، فأما الحديث الذي رواه الإمام أحمد عن أنَس أن رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم قال لرجل: (اسلم)، قال: إني أجدني كارهاً، قال: (وإن كنت كارها)، فإنه ثلاثي صحيح، لكن ليس من هذا القبيل، فإنه لم يكرهه النبي صلى اللّه عليه وسلم على الإسلام بل دعاه إليه، فأخبره أن نفسه ليست قابلة له بل هي كارهة، فقال له أسلم وإن كنت كارها، فإن اللّه سيرزقك حسن النية والإخلاص.
وقوله تعالى: {فمن يكفر بالطاغوت ويؤمن باللّه فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها واللّه سميع عليم} أي من خلع الأنداد والأوثان وما يدعو إليه الشيطان من عبادة كل ما يعبد من دون اللّه، ووحَّد اللّه فعبده وحده، وشهد أن لا إله إلا هو {فقد استمسك بالعروة الوثقى}، أي فقد ثبت في أمره واستقام على الطريقة المثلى والصراط المستقيم. قال عمر رضي اللّه عنه: إن الجبت السحر، والطاغوت الشيطان، وإن كرم الرجل دينه، وحسبه خلقه وإن كان فارسياً أو نبطياً، ومعنى قوله في الطاغوت إنه الشيطان، قوي جداً فإنه يشمل كل شر كان عليه أهل الجاهلية: من عبادة الأوثان، والتحاكم إليها، والاستنصار بها.
وقوله تعالى: {فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها}، أي فقد استمسك من الدين بأقوى سبب، وشبه ذلك بالعروة القوية التي لا تنفصم هي في نفسها محكمة مبرمة قوية، وربطها قوي شديد، ولهذا قال: {فقد استمسك بالعروة الوثقى لا انفصام لها} الآية، قال مجاهد: العروة الوثقى يعني الإيمان، وقال السدي: هو الإسلام، وقال سعيد بن جبير والضحاك: يعني {لا إله إلا الله} وعن أنَس بن مالك: العروة الوثقى القرآن، وعن سالم ابن أبي الجعد قال: هو الحب في اللّه والبغض في اللّه، وكل هذه الأقوال صحيحة ولا تنافي بينها.
وقال الإمام أحمد عن محمد بن قيس بن عبادة قال: كنت في المسجد، فجاء رجل في وجهه أثر من خشوع، فصلى ركعتين أوجز فيهما، فقال القوم: هذا رجل من أهل الجنة، فلما خرج اتبعته حتى دخل منزله فدخلت معه فحدثته، فلما استأنس قلت له: إن القوم لما دخلت المسجد قالوا كذا وكذا، قال سبحان اللّه ما ينبغي لأحد أن يقول ما لا يعلم، وسأحدثك لمَ؟ إني رأيت رؤيا على عهد رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقصصتها عليه: رأيت كأني في روضة خضراء - قال ابن عون فذكر من خضرتها وسعتها - وفي وسطها عمود حديد أسفله في الارض وأعلاه في السماء، في أعلاه عروة، فقيل لي: اصعد عليه، فقلت لا أستطيع، فجاءني منصف - قال ابن عون هو الوصيف - فرفع ثيابي من خلفي، فقال: اصعد، فصعدت حتى أخذت بالعروة، فقال: استمسك بالعروة، فاستيقظت وإنها لفي يدي فأتيت رسول اللّه صلى اللّه عليه وسلم فقصصتها عليه فقال: (أما الروضة فروضة الإسلام، وأما العمود فعمود الإسلام، وأما العروة فهي العروة الوثقى أنت على الإسلام حتى تموت) "رواه أحمد وأخرجاه في الصحيحين، وأخرجه البخاري من وجه آخر"قال: وهو عبد اللّه ابن سلام.
الآية رقم (257)
{الله ولي الذين آمنوا يخرجهم من الظلمات إلى النور والذين كفروا أولياؤهم الطاغوت يخرجونهم من النور إلى الظلمات أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون }
يخبر تعالى أنه يهدي من اتبع رضوانه سبل السلام، فيخرج عباده المؤمنين من ظلمات الكفر والشك والريب إلى نور الحق الوضح الجلي المبين السهل المنير، وأن الكافرين إنما وليهم الشيطان يزين لهم ما هم فيه من الجهالات والضلالات ويخرجونهم، ويحيدون بهم عن طريق الحق إلى الكفر والإفك {أولئك أصحاب النار هم فيها خالدون}،ولهذا وحد تعالى لفظ النور وجمع الظلمات لأن الحق واحد، والكفر أجناس كثيرة وكلها باطلة كما قال: {وأن هذا صراطي مستقيماً فاتبعوه ولا تتبعوا السبل فتقرق بكم عن سبيله ذلكم وصاكم به لعلكم تتقون}، وقال تعالى: {وجعل الظلمات والنور}، وقال تعالى: {عن اليمين وعن الشمال} إلى غير ذلك من الآيات التي في لفظها إشعار بتفرد الحق، وانتشار الباطل وتفرده وتشعبه.
الآية رقم (258)
{ألم تر إلى الذي حاج إبراهيم في ربه أن آتاه الله الملك إذ قال إبراهيم ربي الذي يحيي ويميت قال أنا أحيي وأميت قال إبراهيم فإن الله يأتي بالشمس من المشرق فأت بها من المغرب فبهت الذي كفر والله لا يهدي القوم الظالمين }
هذا الذي حاج إبراهيم في ربه هو ملك بابل نمرود بن كنعان ، قال مجاهد: ملك الدنيا مشارقها ومغاربها أربعة: مؤمنان وكافران، فالمؤمنان سليمان بن داود و ذو القرنين الكافران نمرود و بختنصر ، واللّه أعلم.
ومعنى قوله: {ألم تر} أي بقلبك يا محمد {إلى الذي حاج إبراهيم في ربه} أي وجود ربه، وذلك أنه أنكر أن يكون ثَمَّ إله غيره، كما قال بعده فرعون لملئه: {ما علمت لكم من إله غيري}، وما حمله على هذا الطغيان والكفر والغليظ والمعاندة الشديدة إلا تجبره وطول مدته في الملك، وذلك أنه يقال إنه مكث أربعمائة سنة في ملكه، قال: {أن آتاه اللّه الملك}، وكان طلب من إبراهيم دليلاً على وجود الرب الذي يدعو إليه، فقال إبراهيم: {ربي الذي يحيي ويميت} أي إنما الدليل على وجوده حدوث هذه الأشياء المشاهدة بعد عدمها وعدمها بعد وجودها، وهذا دليل على وجود الفاعل المختار، ضرورة لأنها لم تحدث بنفسها فلا بد لها من موجد أوجدها، وهو الرب الذي أدعو إلى عبادته وحده لا شريك له.
فعند ذلك قال المحاج - وهو النمرود - : {أنا أحيي وأميت}، قال قتادة: وذلك أني أوتى بالرجلين استحقا القتل فآمر بقتل أحدهما فيقتل، وآمر بالعفو عن الآخر فلا يقتل، فذلك معنى الإحياء والإماتة، والظاهر - واللّه أعلم - أنه ما أراد هذا لأنه ليس جواباً لما قال إبراهيم ولا في معناه لأنه غير مانع لوجود الصانع، وإنما أراد أن يدعي لنفسه هذا المقام عناداً ومكابرة ويوهم أنه الفاعل لذلك، وأنه هو الذي يحيي ويميت كما اقتدى به فرعون في قوله: {ما علمت لكم من إله غيري}، ولهذا قال له إبراهيم لما ادعى هذه المكابرة: {فإن اللّه يأتي بالشمس من المشرق فأتب بها من المغرب} أي إذا كنت كما تدعي من أنك تحيي وتميت فالذي يحيي ويمت هو الذي يتصرف في الوجود، في خلق ذواته تسخير كواكبه وحركاته، فهذه الشمس تبدوا كل يوم من المشرق فإن كانت إلهاً كما ادعيت تحيي وتميت فأت بها من المغرب؟ فلما علم عجزه وانقطاعه وأنه لا يقدر على المكابرة في هذا المقام بهت، أي أخرس فلا يتكلم وقامت عليه الحجة، قال الله تعالى: {واللّه لا يهدي القوم الظالمين} أي لا يلهمهم حجة ولا برهاناً بل حجتهم داحضة عند ربهم، وعليهم غضب ولهم عذاب شديد.
وقد ذكر السدي أن هذه المناظرة كانت بين إبراهيم ونمرود بعد خروج إبراهيم من النار، ولم يكن اجتمع بالملك إلا في ذلك اليوم فجرت بينهما هذه المناظرة، وروي زيد بن أسلم أن النمرود كان عنده طعام وكان الناس يغدون إليه للميرة، فوفد إبراهيم في جملة من وفد للميرة فكان بينهما هذه المناظرة، ولم يعط إبراهيم من الطعام كما أعطى الناس، بل خرج وليس معه شيء من الطعام، فلما قرب من أهله عمد إلى كثيب من التراب فملأ منه عدليه، وقال: أشغل أهلي عني إذا قدمت عليهم، فلما قدم وضع رحاله وجاء فأتكأ فنام، فقامت امرأته سارة إلى العدلين فوجدتهما ملآنين طعاماً طيباً، فعملت طعاماً، فلما استيقظ إبراهيم وجد الذي قد أصلحوه فقال: أنى لكم هذا؟ قالت: من الذي جئت به، فعلم أنه رزق رزقهم اللّه عزّ وجلّ. قال زيد بن أسلم: وبعث الله إلى ذلك الملك الجبار ملكاً يأمره بالإيمان باللّه فأبى عليه، ثم دعاه الثانية فأبى، ثم الثالثة فأبى وقال: اجمع جموعك وأجمع جموعي، فجمع النمرود جيشه وجنوده وقت طلوع الشمس وأرسل اللّه عليهم باباً من البعوض بحيث لم يروا عين الشمس، وسلطها الله عليهم فأكلت لحومهم ودماءهم، وتركتهم عظاماً بادية، دخلت واحدة منها في منخري الملك، فمكثت في منخري الملك أربعمائة سنة عذبه اللّه بها، فكان يضرب رأسه بالمرازب في المدة حتى أهلكه اللّه بها.